زغاريد ودقّات دفوف ، وأهازيج هزّت المكان ، ونسوة يُسرعْن الخطى وراء الركب...
عروسٌ على ظهر بغلة ، متـّجهة صوب بيت عريسها ، كما سنـّتها التقاليد...
ركب الأخ الأصغر وراء العروس ، إنّه الوحيد من رجال أهلها ، ألّذي له الحق بصحبتها حتّى تمرّ ليلة الدخـْلة .
فرحت الطاهرة حين اختارتها أم الحسين من بين فتيات
القرية ، لتكون زوجة لإبنها الحسين ، الذي يشتغل بمدينة الدار البيضاء منذ
أربع سنوات ، كموظف وبراتب كبير ...
ـ ألفيْن درهم لكلّ شهر، ردّدت الأمّ بافتخار... وستعيش ابنتكم مرتاحة كأميرة ، لن ينقصها شئ ...
استرقت
الطاهرة السمع خلف ستارة الباب ، فلا يحقّ لها أن تشارك النسوة كلامهنّ
..حمدت ربّها أن نصيبها أحسن من أخواتها الثلاثة ، اللواتي تزوّجن في
البلدة ، وهنّ يساعدن أزواجهنّ في فلاحة الأرض ،وقد غرقن في العمل ،
وتحملنّ مسؤوليات أكبر ...
كلّ بنات القرية حسِدناها حين سمعن أنّها
ستعيش بالبيضاء ، وهي من بلغتْ سِنّ الصوم منذ ثلاث سنوات ، ولو تأخرت أكثر
عن الزواج ، فلن يتقدّم لها سوى أرملٌ أو مطلقٌ ذو أطفال ...
وصل الركب بيت العريس ، ورغم الفرحة الغالبة على
أجواء العرس ، فـالتوتر وحالة ترقّبٍ كانا سيّدا الموقف ، خصوصا بعد أن
أخذوا العروسة وذهبوا بها إلى مكان مجهول ، ليس لأهلها الحق في معرفته ...
وضربات
الدفوف لم تتوقف ، كما هيّ دقّات القلوب ....وحناجر البنات تزدن من رفعها
بالغناء ، حتى يثبتنّ وجودهنّ ، لعلّ بعض الأمّهات يجدنّ فيهنّ عروسات
لأبنائهنّ .
إنتظرت الطاهرة عريسها بين خوفٍ وخجل ، وهيّ ترسم أحلامها البسيطة في حياتها الجديدة ...
ـ سأكون له الزوجة المحبّة ...
لم
تدرس يوما ، وباقي فتيات القرية ، لكن تعلّمت كيف تصبح ربّة بيت ممتازة ،
وتعلّمت الطاعة للرجل ، طاعة عمياء ...هكذا أوصتها أمّها منذ أن أُعلنت
خطبتها ، وردّدت لها مرارا أنّ الزوج أصبح كلّ عالمها ، وطاعته بعد الله
فرض عليها...
فـُتح الباب ودخل الحسين ، بجلبابه الأبيض وقامته
المتوسطة ، لم تكن ملامحه جذّابة ، لكنْ هذا زوجها الآن... لم تدقّق النظر
فيه ، أخفضت عيناها حياءً واحتراما له ، تمتم بصوت غير مسموع ، فردّت عليه
السلام وابتسمت...
إقترب منها أكثر ٬ لكنّ رائحة قوية روّعتها ، إنّها
تعرفها جيّدا ، وكثيرًا ما شمّتها في أخيها ، إنّها رائحة ماء الحياة ،
لقد شرب النبيد ، و يوم زفافه ...
كانت الطاهرة جميلة جدّا بملامحها
الطفولية ، وشعرها الأسود المستدلِ على ظهرها وعلى كتفيها ، وعيونها
المكحّلة بكحل اسود ، وقد زيّنت نساء القرية جبينها بخطوط رفيعة عمودية من
الزعفران الحر والعكّار الفاسي ، ووضعوا على رأسها سبنيَة حريرية كخمار
شفاف ....هذه تقاليدهم ، لم تلطّخها بعدُ موادّ التجميل العصرية ، بلْ
بساطتها جعلت العروس تبدو أكثر جمالا وأناقة ...
أخذت دقّات الباب تستعجل العريس في الدخلة ، وأصواتٌ تمزاجتْ مع دقّات الدفوف ، دقات تزداد بعنف ..
كان
جوّا يوّتر الأعصاب لامحالة ، والحسين يدور حول نفسه وهو يلهث كحيوان مصاب
داخل قفص ، حيث تمنّتْ الطاهرة للحظة ، لو توقّف كلّ هذا وساد الصمت
لدقيقة...
إختلطتْ الأنفاس بعطور الندّ والبخور وماء الحياة ، وبعد عدّة
محاولات من الحسين دون جدوى ، وقد خانته رجولته في أحرج وقت إحتاج لها...
ضغط واستعجال أهل العريس ، وترقب أهل العروسة ...
فتح أخيرا الحسين
الباب بعصبية ... فاتجهت كلّ العيون نحوه ، وشوَش بكلمات لوزيره (وهو مرافق
للعريس )...فأُسكتتْ الطبول ، وأُطفأت الأنوار ، وأُخمدت النار ، وعمّ
المكان صمتٌ رهيب ...
دخل العريس على الطاهرة ، وأشبعها رفسا وركلا ،
وجرّها من شعرها ورماها في الغرفة المجاورة ، التي تجلس فيها قريبات العروس
، ودوّى صائحا:
ـ إبنتكم فاجرة وسافلة ، قد باعت شرفها ...إنّها طالق بثلاث.
حاولت الأمّ أن تدافع عن شرف ابنتها وسط هول الصدمة ، ورفعت دليل براءة ابنتها من التهمة : ورقة طبية تشهد بعذريتها...
ـ إنّها مزوّرة ....أنتم على علم إذن ،وخدعتمونا بتزوجي هذه الساقطة العاهرة...
قاطعته الام كأنّها تتوَسّله ، لعلّه يسمع كلامها :
ـ إنّها شهادة طبيب من مشفى عمومي ، كنت أنا وأبوها من اصطحباها إليه منذ أقلّ من أسبوع...
لم
يكترث لكلامها، وتدخلت أمّه بكلام قوي متعالٍ ، كأنّها وجدت أخيرا الطريق
لتشفي غليلها ، مِنْ مَنْ كانوا بالامس فقط أحبابها ، واليوم تبدل الوضع
اصبحوا أعداءها:
ـ دفعتمْ نقودا لشراء الشرف بشهادة طبيّة ، لو كنتُ مكانكم لقتلتها بدل الدفاع عنها ، خذوا عارَكم معكم لن تـُلطّخ شرف إبني أبدا ...
خرج النسوة مطأطآت الرؤوس من الذلّ الذي أصابهنّ ، وأهل العريس يقدفونهنّ بوابل من الشتائم والبصق ..
ندبتْ الأمّ حظّها وحظّ ابنتها التعيس :
ـ كيف أخبر إخوانك وأصهاري ...وا فضيحتاه... سيكون شرفنا عِلكة تلوكه كلّ القبائل المجاورة..
لم تصدّق الطاهرة ما حدث ٬ لماذا تحوّل فرحها إلى منصّة إعدام ، لما شنقت بالساحة العامة ، أمام كل الجموع ، أقارب وأعداء...
لقد
ضاعت ولن تستطع أبدا أن ترفع حتّى عينيها أمام العالم وأمام أمّها ، كانت
الدموع تنهمرعلى خدّيْها ..كأنّها أبتْ إلاّ أن تغسل هذا الشرف ملطّخ...
شرفها وشرف أهلها ، لكن ما السبيل...
ـ ماذا حدث أخبريني ...قالت الأم بصوت ملكوم
ـ
لا شئ أمّي ..إنّه مخمور بماء الحياة ..إنّه فاشل وعجز عن فكّ عذارتي ،
رغم محاولاته العديدة ...كم هو حقير أمّي ، برّأ نفسه واتهمني في شرفي ...
قاطعتها أمّها وتعالى نحيبها أكثر ..
ـ
أصمتي ، لا أريد سماع صوتك ... قد فضحنا الكلب ومرّغ شرفنا بالتراب ..الله
يلعن خِلفة البنات ...ليتني متّ قبل أن أصل للبيت وأخبر إخوانك ...
أعـْيُنُ القريبات لم ترحمها ، هناك مُشكّك وهناك مُصدّق
لِما ادّعاه العريس ....لُعن يومٌ اصطحبناها فيه ، ولُعن يومٌ كانت
قريبتهنّ ، سوف يحاكمن بفعلتها ، وتلحق لعنة العار ببناتهنّ ...
وكلّ
كلماتهنّ لا تزيدُ سوى غرزَ الخنجر في الجرح أكثر فأكثر ، وكأنّهنّ يتمتّعن
بعذابها ، ولم يكفيهنّ ما أصابها ، وكلّ واحدة تستفسر عن ما جرى وكيف
ولماذا... وهي وأمّها رؤوسٌ مخفضة ودموعٌ لم تتوقف..
ردّدت الأمّ بيأس منفرط يُدمي القلب:
ـ ربّما يكون الخبر وصل إلى البيت ...كيف أواجههم ...كيف أدافع عن شرفٍ مرّغه كلب بالتراب ..
من يردّ عنّا الفضيحة ، من يسدّ أفواه الناس ويرْدَعَهم عن الكلام ...
ما نفـْعُ هذه الورقة اللعينة ولوْ شهدتْ ببراءتك ... بعد قوْل الجميع أنّك طُردتي يوم دُخلتك ...
أكيد ، لا أحدًا سيصدّقنا ... إلاهي رحمتك ...
إبتدأت الأمّ تـُهلْوِس كأنّها أصيبتْ بالجنون ، غير
مبالية بوَقع الكلمات على الطاهرة ، نعم ، كيف تبالي لِمنْ أصبحتْ عِبءًا
ثقيلا وعارًا وجَبَ التخلّص منه ...
بكتْ الطاهرة بصمتٍ وألم ، بكتْ حالها ، بكتْ حال أمّها...
وأخيرا ... جاءهم الفرج من قريبة عاقر ، تطوّعتْ لتستضيف الطاهرة في بيتها ، لأسابيع حتّى يتناسى أهل البلدة حكايتها...
إتجهت
الطاهرة مع خالتها إلى منزل الخالة فاطمة بصمت ، والهواجس المؤلمة قد
أتعبت عقلها الصغير، دون أن تجد تفسيرا مقنعًا لما حصل لها ...
هل هي السبب ، هل خاتم عذارتها صعبُ الفكّ ،
هل الخمر السبب ،
هل ضعفٌ جنسيّ للعريس السبب...
تساؤلات آلمتـْها طول الطريق إلى بيت الخالة ، لما طالت هذه الليلة كأنها دهرا...
لِما لم يبزغ نور الفجر بعد ، لما حلّ الظلام الدامس ، بعدما كانت ليلة مقمرة في بدايتها .....
لن تشتكي ، ما نفع الكلام الآن ...
لقد
كانت منْ قبلُ حسناء القرية ، ومصدر فخر عائلتها ، لكنّ الظالم اللعين ،
في لحظة جعل منها أقذر وأحقر نساء القرية ، لن يصدّقها أحد ، لأنّ وشوَشة
رجلٍ أعلى من صرختها ، فما بالُ أنينها.....
لن تجد بعدَ الآن صدرا
تبكي في حضنه ، ولن تجد من يمسح العار عنها ، سوى الموت ، ستعيش هنا خادمة
تحت أقدام الكلّ ... ما أن تشتكي ، حتّى تـُرفع ورقة العار في وجهها ،
لتذلّها أكثر...
ـ شهادة طبيّة ، هيهات ما نفـْعُها إذن ، ما نفعُ ورقة
تشهد ببراءتي إن كان القاضي مُجتمعٌ ظالم وتقاليدٌ عمياء...لقد حكم ونفـّذ
الجميع حكمه دون رحمة...والضحية بالنسبة لهم الحسين ،رجل بدون رحمة ولا قلب
ولاضمير ، حسبي الله ونعم الوكيل.
في غرفة معزولة عند خالتها ، كلام أمّها تردّد كصدًى رهيبًا في أذنيْها:
ـ إهتمّي بها يا فاطمة ، انها فلذة كبدي، لكنّ القدر أقسى ، وما عليها سوى أن تختفي من حياتنا ، حتّى نحاول أن نستمرّ في العيش ...
كانت
كلمات الأمّ عفوية للخالة ، لكنّها كانت بالنسبة للطاهرة سكاكين تقطّع
أحشاءها ، حتّى أمّها تمنـّت موتها ، إنّها أصبحت كلبا مصعورًا ، يسعى
الكلّ لعقره أو الإبتعاد منه ، حتّى لا تنتقل إليهم عدواه ...
كم هي باردة هذه الغرفة ، وكم هي مظلمة هذه الحياة ...
لقد قررتْ الرحيل بعيدا ، بآلامها وضياعها ، حتّى أهلها منعوها من رفع دعوة
ضدّ الحسين لتستردّ شرفها ، لقد برّروا الظلم بقولهم : ما ينفع الحكم الآن
، وقد حكم المجتمعُ والأعرافُ ، وانتهى الأمر ...
لكن ، هل الرحيل سيمحي عارها ويُبْكم الأفواه...لم تفكر الاجابة...كثيرا
بل حملت نفسها بخطى متثاقلة وهي توَدّع البلدة التي حملتها ، أرضٌ شاهدة
على عفافها ، ودّعتْ الأشجار التي تخبّأت يومًا ما وراءها ، وهي تضحك
وتلعبُ مع قريناتها ، ودّعتْ الزرع والأحجار ، بنظرة منْ أعينٍ تذرف دمْعَ
الفراق...
لكن لم تستطع أن تودّع بشرًا ولوْ من أهلها ، ولوْ أمّها...
فقط ، لن يسمحوا لها بتوديعهم ، لقد محوْها من ذاكرتهم ، لقد أصبحتْ رميما مندثرا....
رحلتْ إلى البيضاء ، مدينة بأضواءٍ ساحرة ، وعماراة شاهقة ، وشوارعَ واسعة مكتضّة ...
رحلتْ وضاعتْ هناك ، في زحمة خانقة ...
20:45