وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم
أما بعد :
الوقفة الثالثة : قال الله تعالى: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون"
هذه الآية عندما يقرؤها القارئ أو يسمعه المستمع لايتبادر إلى ذهنه إلا معنى واحد وهو ظاهرها وفيمن نزلت .. نعم جاءت هذه الآيةحكاية عن المنافقين .. وقال بعض المفسرين : عن اليهود .. ولكني لما تأملتها وأعد قراءتها من جديد وقفت على لطيفة تربوية عميقة الأثر ينتفع بها كل أحد يتلوها .. هذه الحقيقة التأملية جعلتني أقدم على طرحها بين أيديكم في وقفتنا اليوم ..
"وإذا قيل لهـــــــــــــــــــــــــم لاتفسدوا في الأرض" من الذي يقول لهـــــــــــــــــــــــــــم ذلك ؟ إنهم أولئك الصادقون الذين يخافون ويشفقون على كل أحد مهما كان جرمه لأنهم يسيرون في طريق من قال الله تعــــــــــــــــــــــــــــالى عنه : "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" يشفقون عليهم من مغبة صنيعهم وعاقبة تصرفاتهم وخاتمة أفعالهــــــــــــــــــــــــــــــم .. ثم تأمل معي أيها المبارك مم يحذرونهـــــــــــــــــــــــــــــــــم ؟؟
إن التحذير من الإفساد في موطنين وموقعين الأول : إفساد في أنفسهم فيهلك المفسد بإفساده نفسه .. والثاني : إفساد لديانة الناس وخضوعهم لأمر ربهم فيهلك المفسد لمشاركته في غوايةالناس وإغوائهم ..
ورغم الأسلوب اللطيف والطريقة الراقية التي استخدموها معهم إلا أن جوابهم جاء طافحًا بلغة الكبر والتغطرس والاغترار بالنفس "قالوا إنما نحن مصلحون " لم يقفوا مع أنفسهم لما أتاهم التحذير والتنبيه اللطيف بل ازدادوا إمعانا في الفعل المشين ( الإفساد ) من خلال اعتباره عملا صالحًا وجعل أنفسهم أناسًا مصلحين .. هم الآن بين حالين وكلاهمـــــــــــــــــــــــــــــــــــا خطير .. الأول ::أن يكونوا متغطرسين متكبرين لا ينصاعوا للحق ولاينقادون له ولو ظهر لهـــــــــــــــــــــــــم . الثاني::أن يكونوا متصورين أن مسلكهم وطريقهم قويم وأن الآخرين لايفهمون و لا يعقلون .
وهذه هي اللطيفة التي استوقفتني في هذه الآية .. إن الحسرة الحقيقية والخسران المبين في كون السائر يسلك طريقــًا لا يشك في صحته بل يراه منهجًا لايتخلى عنه ودربًا محببًا إلى نفسه وهو في الحقيقة مسلك غير قويم وصراط غيرمستقيــــــــــــــــــــــــم.
إن رجاحة العقل وحصافةاللب تجعل صاحبها عالمًا بالطريق قبل سلوكه يسير على هدى ونور ويعرف كل تفاصيل الطريق (( كما هي !! )) و لا يتنكب السبل الصحيحة ..
ألا ترى معي أننا ابتلينا اليوم بسقامة فكر بعضهم وجهالة آخرين وسفاهة واعوجاج نظرتهـــــــــــــــــم ..
إنهم من يرى الإصلاح المزعوم في التشكيك في عدالة عالم من العلماء أو لمز بعض الفضلاء، أو سخرية ببعض الصلحاء .. نعم هوفي نظرهم الإصلاح .. ولكنه والعلم عند الله ذات الإصلاح الذي ادعاه أولئك في الآية ..
إن صيانة اللسان وتفقد الجنان والانقياد لأمر الرحمن هي ميزة المصلح الحق .. واجب على كل مسلم أن يكون مصلحًا يسعى في صلاح نفسه أولا ثم يشارك قدر استطاعته في إصلاح الناس والعالم من حوله .. ولكن أي إصلاح نعني وأي إصلاح نقصد؟
الإصلاح الحقيقي هو الخروج من كل سلطان إلا من سلطان الله والتغيير في كل شيء إلا في أمر الله والتحرر من كل شيء إلا من عبادة الله .. هو هكذا كما أفهمه ..
ليس الإصلاح أن نحرر الإسلام ليصبح تحت سلطة الأمة كما يزعم البعض .. وليس الإصلاح هتافات وصراخ دونما عمل .. هذه كلها مزاعم بان عورها وظهر زيفها وخفت ضوؤها ..
إننا اليوم من هذه الآية نأخذ درسًا قرآنيًا متينـًابأن نتعرف على طريق الإصلاح الحقيقي ولذلك جاء رد الله عز وجل عليهم مباشرة بـــــــــــــــ " ألا" وهي كلمة تنبيه عند أهل اللغة حتى يفيق كل أحد ويستيقظ من غفلته ? "ألاإنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون" إنه الجواب الصاعق من الله العزيز الحكيم بأنهم يسيرون في طريق إفساد وغواية .. ليس له نهاية .. والمصيبة الكبرى في سلوكهم هذا الطريق أنهــــــــــــــــــــــــــم لا يشعرون وهو استدراج عياذا بالله من هذا .
هي دعوة إلى الحذر من السير في طريق لا تدرك عاقبته .. اقرأ الآية مرة ومرتين وثلاث وستجد أنها بالفعل أشمل من كونها منطبقة على المنافقين أو اليهود فقط .. بل تشمل كل من يقرأ القرآن ويستفيد منها ( أي الآية ) وينتفع بها كل طالب للحق ..
لأن طريق الحق تعلوها سحائب القوة وتجري فيه دماءالمتانة .. إن الوعي والفطنة والتريث والحذر والاستقصاء من أوجب الواجبات !! لأن أزمان الفتن حلت وأوقات التمايز بدأت .. ولأن الحق لا يمكن أن يكون في أكثر من طريق وأكثر من صورة بل الحق واحد لا نسبية فيه ولذلك وجب علينا البحث عنه وتقصيه فإذا وجدناه تمسكنا به بل أقول : عضضنا عليه بالنواجذ وقبضنا عليه كـقابض على الجمر كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ووصف .
يا إخوتاه .. يا أحبتاه .. هذه الآية تعطينا درسًا عظيمًا مفاده : أن سوء الفهم آفة وقديؤتى الواحد منا من قبله فلنحرص جميعا على الاستقاء من المعين الصافي
( تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا : كتاب الله وسنـــــــــــــــــــــــــــتي ))
الوقفة الثالثة من سلسلة الوقفات العشر من كتاب رب البشر