يصعب
وصف العذاب حين يتعلق الأمر بالسجون المطمورة تحت الأرض ويصعب التكهن بحجم
المأساة حين يكون كل ذلك على يد سلطة عربية، اعتادت أن تعيش على البطش
لحفظ كراسيها بالتجويع والترهيب والزنزانات الأرضيّة.
"مليكة"
الابنة البكر للجنرال أوفقير، حين قرأت "السجينة" وعشت معها منذ أن كانت
بالقصر الملكي من وقت إذ تبناها الملك محمد الخامس لتتربى مع ابنته الأميرة
"أمينة" في قصر الرباط الملكي دون أن تخرج منه إلا نادراً_ سجن فاخر
بطريقة ما_ وإلى أن فرّت من سجنها بعد أحد عشر عاماً عبر نفق حفرته بملعقة
وقضيب حديد انتزعته من سريرها، ثم سجن الأربع سنوات وإقامة جبرية في منزل
لا يدخل إليه أحد قبل تقديم طلب رسمي للسلطة.
وأنا
أعيشها كانت تتراء لي رواية الطاهر بن جلون "تلك العتمة الباهرة" وسجون
تيزمامارت فهي وقعت في ذات السنوات إلا أن الفرق في السجينة أنها كانت أكثر
قرباً من الحياة الملكية الباذخة وكان وصفها للقرى الكاملة من العبيد
العاملين داخل القصر ودور المحضيات اللاتي يربين من طفولتهن لخدمة الملك
صاحب الرأي واليد المطلقة، كشف حياة فاسدة لا يمكن أن يتصورها عقل الفقراء
من الشعب المعدم.
"
عندما ننطلق في رحلة والحرس خلفنا طوال الطريق، كنت أحاول أن أنتهز هذا
الحيّز من الحرية قليلاً، وأنظر إلى داخل السيارات التي نتجاوزها ، فأرى
زوجين مع أولادهما، أو ألمح على يمين الطريق شاباً على دراجته النارية،
فأجدني أحسد هؤلاء الناس على حريتهم، وفجأة أرى بوبات تفتح وتنغلق، وأنا من
جديد في الداخل، امرأة حبيسة".
بعد تورّط الجنرال أوفقير في محاولة انقلاب جرت في 16آب 1972 تم قتله وقيل أنه "انتحر"
منذ هذه اللحظة بدأ العذاب
يصب على عائلة أوفقير ، وهذا ما يميّز العقاب الملكي فقد زجت مليكة وجميع
أفراد أسرتها السبعة متنقلين في سجون بشعة، ولنا أن نتصور حجم الفاجعة:
"
كانت النهارات لا تنتهي، وعدوّنا الرئيس الزمن، نراه ونحس به ونلمسه
رهيباً، مهدّداً، عصياً على التطويع، يكفيه نسمة هواء عليل تأتي من النافذة
ليستخفّ بنا ويذكرنا بأننا سجناء."
وأيضاً..
"
وكملابسة، يحدث لنا الحيض نحن الإناث السبع في وقت واحد، وليس لدينا
قطن،ولا فُوط صحيّة ، فنستخدم قطع مناشف قديمة نقطّعها، ونعطيها بعد
الاستعمال لحليمة لتغسلها وتضعها حول النار لتجف.ونضطر أحياناً لانتظارها
والحاجة ماسّه إليها.
كم
عذبنا هذا الشعور باحترام حميمية الحياة الخاصة. فنحن نعيش تحت أنظار
الآخرين: في غسل وتبديل ملابسنا، وذهابنا إلى " التواليت"، نتشارك حتى في
آهاتنا من الحمّى أو الألم، ليس لنا إلا الليل نتنهد فيه تحت الأغطية أو
ننتحب خفية عن الأنظار."
لا أستطيع أن ألوم الإنسان
حين يصل لدرجة اليأس في مثل تلك الحالة التي تعيشها أسرة أفقير.. لكن قلب
الإنسان لا يستطيع إلا أن يؤمن...
"قلت لأمي: لو أن الله موجود، هل يتسامح بقيام ذلك؟
لم
أكن أتوجه إلى الله إلا للومه، والتصريح له بأنني أنكر وجوده، لكن يحدث لي
أن أتخاذل وأنكص خشية لعنة تنزل بي العقاب على كفري وحنثي بالإيمان. فأخاطب
الله:
_ أنني أتراجع عن كل ما قلته لك، ونبدأ من نقطة الصفر، لكنني أنذرك وأنتظر إشارة.
وأحدّق في السماء ، لكن لا يأتيني شيء، فالليل مخيّم مدلهم كحياتنا وأفكارنا."
الهروب كان حدثاً بارزاً وصفعة قوية لحكم جائر، ولملابساته تشويق لا يمكن أن يقاوم
"
بدأت الخفر عند الظهر وأنهيت الصعدة نحو الساعة السادسة مساءً. لم يبق
أمامنا إلا رفع الأتربة، فكنت أملأ الصفيحة وأهزّ الحبل، فترفعها الفتيات
حتى الزنزانة ليفرغن محتوياتها ويُعدنها لي. كنت في غاية الحماسة، والملعقة
لا تكفيني . لو أن باستطاعتي اقتلاع التراب بأسناني لفعلت، فأنا أحفر ،
وأنزح، ولا أفكر، فقد غاب عني كل إحساس. غدوت آلة.أخفر، وأنزح التراب.أحفر،
وأنزح.."
وبعد فجوة النور التي أغشت أبصارهم خرجوا لعالم لا يعلمون اتجاهاته..
" طلبت عندئذ من عبد اللطيف أن يقودنا وقلت له:
_ إننا راشدونويبدو أننا ارتكبنا بعض الخطايا، أما أنت فنقي طاهر، فإن كان لله وجود فسيتحنّن عليك وستقودنا إلى الحرية.
تبعناه دون أية كلمة، فأجسامنا تؤلمنا وثيابنا مبلّلة،إنما يجب أن نتقدم.
هتف عبد اللطيف: كيكا، تعالي وانظري، إنها أرض قاسية ولا أعلم ماهي.
لم
يسبق لعبد اللطيف أن مشى على الإسفلت. ضممناه بقوة وأشبعناه تقبيلا، أحسسنا
أننا أشبه برواد فضاء يقومون بخطواتهم الأولى على سطع القمر."
"
تحول نظري إلى عبد اللطيف ، ولأول مرة ، بعد زمن طويل ، أدركت الحالة
المفجعة التي يعاني منها. فقد سجن وهو في الثانية والنصف من عمره، وهو يخرج
لأول مرة الآن وقد تجاوز الثامنة عشرة، وينظر الآن إلى كل هذه الحركة على
الطريق مذهولا متراخي الشفتين، متجمد العينين، كأنه شبح يخرج من قبر."
مليكة هي الإنسان بكل مكوناته القابل للحياة والاستمرار ما أمكنها ذلك..
" من
المؤكد أنني فقدت سنوات لن أستطيع الاستعاضة عنها أبداً، وأنا أدخل مجدداً
في الفترة التي أطرق فيها باب الشيخوخة. هذا مؤلم وظالم لكنني كوّنت الآن
فكرة عن الوجود: إنه لا يُبنى بالحيل، مهما كانت جذّابة. فلا الغنى، ولا
المظاهر لها، من الآن فصاعداً، أهمية في نظري."
" في
السجن ساعدني الحقد على الصمود والنجاة، وكان الحقد الذي اشعر به تجاه
الملك يمتزج مع ذلك الذي ظننت أنني أحسّ به تجاه بلادي، لكنني بعد خروجي
برئت من الاثنين. وأنا أترجّح اليوم بين الاستياء الأكثر عمقاً والرغبة
الصادقة بعدم الابتلاء بالحقد. فالحقد يُقرض ويشُلُّ ويحرم الإنسان من هناء
العيش.لن يجعلني الحقد أو يجعل أمي وأخويّ وأخوتي نستدرك السنوات الضائعة
أو يعوّضنا عنها. إنما ما يزال أمامي طريق يجب أن أسلكه."
.
السجينة
كانت هذه الرواية أكثر فداحة من العتمة والجرأة التي اتصفت بها في فضح الأنظمة بالأسماء والأماكن لهي وثيقة تستحق أن تُخلّد.
" دخلت القنادس إلى سدني وأعلام النصر خفّاقة فوق رماحها"
سأضل أتذكر هذه المقولة
بصفة خاصة لأنها تذكرني بقدرة الإنسان على اختلاق الدعابة و الشفرات في ظل
عيشه في أماكن خالية من الخصوصية وسبل الحياة.