طرحنا في المقال السابق واحداً من أهم الأسئلة الفلسفية الكبرى في ميدان
التربية والتعليم وهو: ما الغاية من التعليم؟ ولقد رأينا أن أولى الإجابات
وأكثرها حضوراً في نظامنا التعليمي هي الإجابة التي ترى أن الغاية من
التعليم هي نقل العلوم والمعارف والنظريات المختلفة إلى عقول التلاميذ
بواسطة ما يدونه معدو المناهج في الكتب المدرسية من علوم ومعارف وقواعد، أو
بواسطة ما يمتلكه المعلمون من معلومات وخبرات في هذا المجال أو ذاك. وبهذا
يتمثل دور المدارس في مراحل التعليم الأساسي في توفير البيئة المدرسية
التي تسهل عملية نقل تلك العلوم إلى عقول التلاميذ، والتأكد من إتمام هذه
العملية بإجراء الاختبارات الفصلية والنهائية التي تقيس وتختبر مدى تمكن
الطالب من هذه المعلومة أو تلك، أو من هذه القاعدة العلمية أو تلك.
في ظل هذه الفلسفة يتم تصميم الكتب المدرسية بحشوها بقدر يحدده "الخبراء
التربويون" من العلوم والمعارف والنظريات، حتى يمكن للطالب أن يكتسب أكبر
قدر ممكن من تلك العلوم، وينتقل بعد ذلك إلى مستوى أعلى، متى ما أثبت أنه
قادر على اختزان تلك المعلومات وتفريغها على صفحات كراسة الإجابة في
الاختبارات النهائية. وفي ظل هذه الفلسفة لا بأس أن يحفظ الطالب عواصم
وحدود بلاد الصين أو البرازيل، ولا بأس أن يحفظ السلسلة الذهبية للخلفاء
العباسيين، ولا بأس أن يحفظ الطالب قواعد النحو وصرفه، وقواعد التجويد
وفنونه، ولا بأس أن يحفظ المعادلات الكيميائية والفيزيائية والرياضية، ولا
بأس أن يستخرج من نصوص الأدب جملة أسمية أو فعلية، ولا بأس أن يعرف متى ولد
ذلك الصحابي ومتى توفي، وإلى أي قبيلة من قبائل العرب ينتمي.
في ظل هذه الفلسفة يتم اختيار المعلم متى ما كان تحصيله العلمي متميزاً،
ومتى ما تمكن من الإحاطة بالمعارف الدقيقة في مجال تخصصه. وفي ظل هذه
الفلسفة يقل الجهد الذي يبذله المعلم عاماً بعد آخر في التحضير والاستعداد
لأنه سيكون "ملماً" وحافظاً لكل مفردات المنهج وتفاصيله، ويعرف بالضبط كل
الإجابات عن الأسئلة التي يحتويها المنهج. وفي ظل هذه الفلسفة يكون دور
الإشراف التربوي مهماً متى ما تأكد أن المعلم قد أتم المنهج من أوله إلى
آخره، ومن ثم تفرغ في آخر أسابيع الدراسة للإعادة والتكرار حتى يتأكد أن
الطلاب قد حفظوا موادهم واستعدوا جيداً للاختبارات النهائية.
في ظل هذه الفلسفة يكون لفترة الاختبارات طقوسها في البيت بين سهر وتعب
وقلق، وفي المدرسة بين ترقب ومتابعة وحماية لأوراق الأسئلة وإجابات الطلاب،
ويكون لها جداولها وبرامجها ولجانها التي تسهر الليالي الطوال في التصحيح
والتدقيق والرصد وطبع الشهادات. وفي ظل هذه الفلسفة يكون لفترة الاختبارات
أهميتها في ثقافة المجتمع فالعلاقات تتبدل، والزيارات تؤجل، والجميع في
استنفار. وفي ظل هذه الفلسفة تزدهر الدروس الخصوصية قبيل فترة الاختبارات،
فيبحث الآباء والأمهات عن معلم أو معلمة يتداركون بهما ما فات، فيلجأون إلى
من اكتظت أوقاتهم بقائمة طويلة من الزيارات حتى آخر الليل، ولكن لا بأس من
ذلك فما يهم الآن هو أن يتمكن صغيرهم من استدراك معلومة هنا أو هناك قد
يحتاجها غداً عندما يكرم المرء أو يهان.
وفي ظل هذه الفلسفة يترقب الجميع صدور النتائج، فالصحف مستعدة لتسويد
صفحاتها بأسماء الناجحين، حتى ولو تمكنت مواقع الانترنت من إعلان النتائج
والدرجات. وفي النهاية يكون لهذه الفترة أفراحها وأتراحها، واحتفالاتها
وبكائياتها، وجوائزها الثمينة ونتائجها القاسية.
هذه الفلسفة لها حضور قوي في نظامنا التعليمي، ولها أبناؤها البررة
الذين يحسنون الدفاع عنها، ويحسنون تكريسها بتعاميم صارمة، وبجهاز مركزي
ضخم يضم "ميليشيات" من مشرفين ومراقبين ومديرين ووكلاء وموظفين. ولهذه
الفلسفة سياسات تكتب، وأموال تصرف، وعيون تراقب، ومؤتمرات تنظّر وتؤصل
وتؤطر.
ولكن هل تمكنت هذه الفلسفة من خلق جيل المستقبل؟ نترك الإجابة للقراء
الكرام، وننتقل في المقال المقبل إلى رأي آخر وفلسفة أخرى.. د.احمد العيسي