سماورٌ من حديد في وسط
الغرفة على صفيح ٍ ساخن ، يغلي و ينفث بخاراً متكاثف تتبعادُ خُصلاته
تدريجياً كلما صعّدنا النظر و ارتطمنا بالسقف الحجري المصقول . على فوهته
قطعة بلاستيك سوداء اللون يُشم لها رائحة المواد الحافظة كالدهان و الأصباغ
أو الأسلاك الكهربائية الُمحترقة . مسّاكته قائمة مرفوعة كأنما لتقبضَ
عليها اليد الإنسانيّة فوراً و تسحبه بعيداً عن غطاء المدفأة الكازية ،
فيبانُ سطحهُ الصدأ الأحمر المقشور . المدفأة صغيرة الحجم شعلتها حمراء
برتقالية يغطيها شبكٌ فضي مُخرَّم . على محيطها و اكتمال استدارتها تتوزعُ
العجلات السوداء شتى الإستخدامات ، فوهة لخزان الوقود ، ضابطة لجذوة الشعلة
و واحدة تعمل كمفتاح للقفص الحديدي المُسيَّج فيما لو وقعَ عُطلٌ ما .
تدورُ حول المدفأة إذا كنتَ
تشعرُ بالبرد أو كان بودّك أن تصنعَ كوباً من الشاي من ماء السماور الذي
بدأ يسخن . لم يصعد بخار بعد من سماور الماء ، تلك الكتلة الحديدية الأشبه
بالمكواة القديمة . و الدليل نفاذُ ذبابة كانت تطير في الجو و مرّتْ فوقه و
لم تتأثر و لم تصنع أي إزاحة . عقاربُ الساعة فقط تجترُّ نفسها لاهثة على
رقعة الأرقام . يلتقي الصغير و الكبير في محطات على الطريق المنحني ، زخرفة
ُ الصغير لا تظهرُ واضحة ً من النقش البارز في ريشة الكبير . ذاتُ الشكل
يبدو مرسوماً على قماش الستارة ، و هو إذا شئتُم أيضاً شارة ُ البستوني في
ورق اللعب . الستارة تشفُّ لا تكتم ما وراءها ، ثمّة زجاجٌ معرّق بحبات
الماء الدقيقة و الممتلئة . تتلوى خيوطُ الماء كالحيّات ، إنها غزيرة تُضبب
الرؤية .
الذبابة تطن ... إن ن ن ن ن
نْ ، زن ن ن ن نْ . تخترقُ مسافة من الهواء بين المدفأة و الزجاج . تستقرُ
على سطح النافذة ، لعلها تشعرُ بالبرد ؟ . لكن الجو مشمس ، الضوء ينتثرُ
في الفضاء ، ينكسرُ يتشتت ، يرتدُ أو ينفذ .يدخلُ الغرفة من بلوّر الزجاج
.. لعلها عمياء لا ترى ؟ أو يؤذيها ضوء الشمس ؟ . لكن أنّى لها العيش في
دنيا الله الواسعة مُسرحة ً جناحيها ؟ . تتركُ السطح و تعتلي
إطار ساعة الحائط . الساعة تدقُ بخفوتها الرتيب .. تك تك تك تك . لعلها
طرشاء لا تسمع ؟ .. مَن يعلم ، قد تكون محبّة ً للصوت و تجدهُ موسيقيّاً و
مختلفاً ..
مزاجهُ أن يستمر كل شيء في
هدوئه و رواقه ِ . صفحاتُ الكتاب بين يديه يضغطُ عليها إلى أن تنطبق كليّاً
بظهرها على ظهر التي تسبقها تلافياً لصوت الحفيف المترتب . لا يستخدم
كرسيّاً هزازاً ، الكرسي ثابت ..
الذبابة تُخطىء و تسقطُ بين الصفحات . يبتسم ، يتهيّأ لإطباقة شديدة و بحذر ٍ شديد و على وشك أن يصفق الجلدتين .. ثم هووووب ..
يُدق الباب .
- بسرعة .. بسرعة . صوتٌ جماعي كبير ، يختلطُ بهمهمات .
تطيرُ الذبابة و يرتشّ الزجاج من جديد بكبّات ٍ من الماء . يهرعُ من مقعده باتجاه الباب .
- مَنْ أنتم ؟
- إنهم يلفوّنَ البُقج و يعتلون الأكياس .. عددهم يزداد .
- ماذا ؟ إلى أين ؟
- لا ندري ..
تُظلمُ في الخارج . كأن الليلُ ينسدلُ لثوان ٍ ثم ينسرح .
- ما هذا الصوت ؟ .. مطر ، خير ، بركاتك يا رب ! .
- إنهُ الجراد .
- أي جراد ؟ كيف ؟ .. ألا يأزّ مثل الشتاء ، يشوّش كالهطول ؟ .
- ......
يستنجدُ بالنافذة . يركضُ
خائفاً . يحسُّ بالبخار الساخن يمسُّ صفحة وجهه . يفتحُ النافذة و يطلُّ
برأسه ِ .. عيناهُ تتجهان نحو الحقول القريبة .
بطرف عينه يلمح الذبابة و قد عبرتْ إلى الخارج .
يحاول أن يتكلم ، غير أن قطة كبيرة الحجم وردية لا يُعرف من أي جهة قُذفَ بها راحتْ تحكّ وجهها بأظافر قدمها في أرض الحوش ..
ترتاحُ قسمات وجهه بعد أن تفركشتْ . يعودُ إليهم بوجه ٍ باسم .. لا يراهم بوضوح كأنهم في الظل .
- عاصفة من الغبار يا بجم .. حتى القطة سمينة . فلماذا تفروّن ؟ .
- لم تعد قططاً .. افترستْ لتوها واحداً منّا و لونها الورديّ ما هو إلا أثرُ دمه .
- و كم عددكم ؟ .
- قد سألتَ كثيراً يا سيدي .. إنها تدقُ رأس الساعة ، خفّ قدمك ، هيا ..
يتركونه و يركضون .
- إني لم أقرر بعد ..
يُسمع صوتُ السماور يغلي ثم ينطلقُ بالصفير .
16